ما هو الفرق بين الآيتين : والمستغفرين بالأسحار " آل عمران 17
" وبالأسحار هم يستغفرون " الذاريات18 " ..؟
نقول والعون من الله تعالى وبعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه :
فكلا الآيتين مدح للإستغفار في هذا الوقت بعينه وقت السحر وهو آخر الليل ، والفرق بينهما من وجهين :
الأول : التقديم والتأخير . والثاني : التعبير بالأسم (المستغفرين) في الآية الأولى ، وبالفعل (يستغفرون) في الآية الثانية.
وبيان ذلك أن الفصاحة العربية من قواعدها تقديم ما يستحق التقديم وتأخير ما يستحق التأخير ، بحسب مراد المتكلم وما يقتضيه السياق .
قال سيبويه: إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " انتهى ".
وقد عقد الجرجاني فصلاً للتقديم والتأخير في كتابه الفذ (دلائل الإعجاز) وشرح فيه كلام سيبويه هذا وقال في أوله: "هو باب كثير الفوائد ، جم المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية ، لا يزال يفتر لك عن بديعة ، ويفضي بك إلى لطيفة ".
فالسياق في سورة آل عمران وارد في تفصيل صفات الذين اتقوا مطلقاً ، ومنها قوله تعالى : الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ {سورة آل عمران: 17}
وكلها صفات على نسق واحد ختمت بصفة الإستغفار، وقدم الإستغفار فيها على ذكر وقته الفاضل ـ الذي هو السحر ـ اهتماماً واعتناءاً وتنويها بفضله في نفسه بقطع النظر عن وقته ، ويدل على هذا الإهتمام ابتداء هذه الصفات في السياق نفسه بهذه الصفة ذاتها ، وهي طلب المغفرة ، كما قال تعالى قبلها مباشرة : الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران:16}.
ولذلك جاء التعبير بالأسم الذي يدل على الثبات والدوام ، في حين أن التعبير بالفعل يدل على الحدوث والتجدد .
قال السيوطي : الأسم يدل على الثبوت والأستمرار، والفعل يدل على التجدد والحدوث ، ولا يُحسن وضع أحدهما موضع الآخر ... والمراد بالتجدد في الماضي الحصول وفي المضارع ] ومنه آية سورة الذاريات
التي معنا ] أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى ( الإتقان في علوم القرآن 2 / 578 ، 579 ، وانظر كذلك : البرهان في علوم القرآن 4 / 66 ، ومباحث في علوم القرآن ص 209 ) فالحاصل أن اختيار الأسم في هذا السياق أولى ؛ إذ هو أدل على ثباتهم على حال الإستغفار واستمرارهم عليه ، من بداية حالهم إلى نهايته.
فهي صفة لازمة لهم.
بخلاف قوله تعالى في سورة الذاريات : وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{الذاريات18}
حيث كان الوصف للمحسنين من المتقين ، وهم خيرهم وأفضلهم ، قال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18،17،16،15}
ومعلوم أن الإحسان هو أعلى مقامات الدين ، فليس المراد مجرد ذكر كونهم يقومون بالليل ويستغفرون ، ولكن كونهم لا ينامون من الليل إلا قليلاً ، وكونهم يستغفرون في أكمل الأحوال وأفضل الأوقات وأشقها استيقاظاً على الناس وأحبها راحة لديهم أو انشغالاً بشهواتهم ، وهو السحر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له " متفق عليه.
وعن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله : أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر. رواه الترمذي وحسنه ، وحسنه أيضا الألباني .
ولذلك قالت عائشة : من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر . متفق عليه.
وقال ابن كثير : قال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخباراً عن يعقوب أنه قال لبنيه : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي { يوسف 98 } قالوا : أخرهم إلى وقت السحر . انتهى
وعبر هنا بالفعل الذي يدل على الحدوث والتجدد ، فإنهم وإن كانوا يمدون صلاتهم إلى السحر ، إلا أن حالهم عندئذ ليس بحال المانِّ بعمله المعجب به ، وإنما يتجدد لهم في هذا الوقت وهم على تلك الحال من معاني الإيمان ومعرفة الله ما يوجب لهم طلب المغفرة وتكراره ، فكانوا كما قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
{المؤمنون:61،60} فهم يفتتحون قيامهم بالثناء على الله وطلب مغفرته ـ كما هو ثابت في السنة ـ ثم يتجدد لهم ما يدعوهم لإعادته وتكراره في ختامه أيضاً ، وهذا لكونهم محسنين يعبدون الله كأنهم يرونه ، فيحتقرون أعمالهم في جنب الله ويتهمون أنفسهم ويقرون عليها بالتقصير والتفريط في حقه تعالى ، كما ثبت أن الملائكة يقولون يوم القيامة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
ثم لا يُخفى ما في كل آية من الآيتين من تناسب مع الفواصل السابقة لها في سورتها ورءوس آيها ، وهذا أحد علوم القرآن ، قال الزركشي : اعلم أن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تطرد متأكد جداً ، ومؤثر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيراً عظيماً. اهـ
والله تعالى أعلى وأعلم .